بسم الله الرحمن الرحيم
يسرني أن أقدم للطبعة الثانية لكتاب اقتصادنا وقد ازددت إيماناً واقتناعاً بأن الأمة قد بدأت فعلاً تنفتح على رسالتها الحقيقية التي يمثلها الإسلام وتدرك بالرغم من ألوان التَضليل الاستعماري أن الإسلام هو طريق الخلاص وأن النظام الإسلامي هو الإطار الطبيعي الذي يجب أن تحقق حياتها و تفجر طاقاتها ضمنه و تنشىء كيانها على أساسه.
وقد كان بودي أن تتاح لي فرصة للتوسع في بعض مواضيع الكتاب وتسليط المزيد من الأضواء على عدد من النقاط التي تناولها ولكني إذ لا أجد الآن مجالاً للحديث عن بحوث الكتاب فلن أدع هذه المناسبة دون كلمة عن موضوع الكتاب ذاته وصلة هذا الموضوع الخطير بحياة الأمةومشاكلها وأهميتها المتنامية على مر الزمن على الصعيد الإسلامي و الصعيدالبشري على السواء.
فالأمة على الصعيد الإسلامي وهي تعيش جهادها الشامل ضد تخلفهاوانهيارها وتحاول التحرك السياسي والاجتماعي نحو وجود أفضل وكيان أرسخ واقتصاد أغني وارفه سوف لن تجد أمامها عقيب سلسلة من محاولات الخطأ والصواب إلا طريقاً واحداً للتحرك وهو التحرك في الخط الإسلامي ولن تجد إطاراً تضغ ضمنه حلولها لمشاكل التخلف الاقتصادي سوى إطارالنظام الاقتصادي في الإسلام.
والإنسانية على الصعيد البشري وهي تقاسي أشد ألوان القلق والتذبذب بين تيارين عالميين ملغمين بقنابل الذرة والصواريخ ووسائل الدمار لن تجدلها خلاصاً إلا على الباب الوحيد الذي بقي مفتوحاً من أبواب السماء وهوالإسلام.
ولنأخذ في هذه المقدمة الصعيد الإسلامي بالحديث.
على الصعيد الإسلامي:
حينما أخذ العالم الإسلامي ينفتح على حياة الإنسان الأوروبي ويذعن لإمامته الفكرية وقيادته لموكب الحضارة بدلاً عن إيمانه برسالته الأصيلة وقيمومتها على الحياة البشرية بدأ يدرك دوره في الحياة ضمن إطار التقسيم التقاليدي لبلاد العالم الذي درج عليه الإنسان الأوروبي حين قسم العالم على أساس المستوي الاقتصادي للبلد وقدرته المنتجة إلى بلاد راقية اقتصادياً وبلاد فقيرة أو متخلفة اقتصادياً وكانت بلاد العالم الإسلامي كلها من القسم الثاني الذي كان يجب عليه في منطق الإنسان الأوروبي أن يعترف بإمامة البلادالراقية ويفسح المجال لها لكي تنفث روحها فيه وتخطط له طريق الإرتفاع.
وهكذا دشن العالم الإسلامي حياته مع الحضارة الغريب بوصفه مجموعة من البلاد الفقيرة اقتصادياً ووعى مشكلته على أساس أنها هي التخلف الاقتصادي عن مستوي البلاد المتقدمة الذي أتاح لها تقدمها الاقتصادي زعامة العالم ولقنته تلك البلاد المقتدمة أن الأسلوب الوحيد للتغلب على هذه
المشكلة والالتحاق بركب البلاد المتقدمة هو اتخاذ حياة الإنسان الأوروبي تجربة رائدة وقائدة وترسّم خطوات هذه التجربة لبناء اقتصاد كامل شامل قادر على الارتفاع بالبلاد الإسلامية المتخلفة إلى مستوي الشعوب الأوروبيةالحديثة.
وقد عبّرت التبعية في العالم الإسلامي لتجربة الإنسان الأوروبي الرائد للحضارة الحديثة عن نفسها بأشكال ثلاثة مترتبة زمنياً ولا تزال هذه الأشكال الثلاثة متعاصرة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي.
الأول: التبعية السياسية التي تمثلت في ممارسة الشعوب الأوروبية الراقيةاقتصادياً حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة.
الثاني: التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلة من الناحية السياسية في البلاد المتخلفة وعبرت عن نفسها في فسح المجال للاقتصاد الأوروبي لكي يلعب على مسرح تلك البلاد بأشكال مختلفة ويستثمرموادها الأولية ويملأ فراغاتها برؤوس أموال أجنبية و يحتكر عدداً من مرافق الحياة الاقتصادية فيها بحجة تمرين أبناء البلاد المتخلفين على تحمل أعباءالتطوير الاقتصادي لبلادهم.
الثالث: التبعية في المنهج التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم الإسلامي حاولت أن تستقل سياسياً وتتخلص من سيطرة الاقتصاد الأوروبي اقتصادياً وأخذت تفكر في الاعتماد على قدرتها الذاتية في تطوير اقتصادها والتغلب على تخلفها غير أنها لم تستطع أن تخرج في فهمها لطبيعة المشكلة التي يجسدها تخلفها الاقتصادي عن إطار الفهم الأوروبي لها فوجدت نفسها مدعوة لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الإنسان الأوروبي في بنائه الشامخ لاقتصاده الحديث.
وبالرغم من اختلافات نظرية كبيرة نشأت بين تلك التجارب خلال
رسم المنهج و تطبيقه فإن هذه الاختلافات لم تكن دائماً إلا اختلافاً حول اختيار الشكل العام للمنهج من بين الأشكال المتعددة التي اتخذها المنهج فيتجربة الإنسان الأوروبي الحديث فاختيار المنهج الذي سلكته التجربة الرائدة للإنسان الأوروبي الحديث كان موضع وفاق لأنه ضريبة الأمانة الفكرية للحضارة الغربية وإنما الخلاف في تحديد شكل واحد من أشكالها.
وتواجه التجارب الحديثة للبناء الاقتصادي في العالم الإسلامي عادة شكلين لتجربة البناء الاقتصادي في الحضارة الغربية الحديثة وهما الاقتصادالحر القائم على أساس رأسمالي والاقتصاد المخطط القائم على أساس اشتراكي.
فإن كلاً من هذين الشكلين قد عاش تجربة ضخمة في بناء الاقتصادالأوروبي الحديث والصيغة التي طرحت للبحث على مستوي التطبيق في العالم الإسلامي على الأكثر ما هو الشكل الأجدر بالأتباع من هذين الشكلين وأقدر على إنجاح كفاح الأمة ضد تخلفها الاقتصادي وبناء اقتصاد رفيع علىمستوى العصر.
و كان الاتجاه الأقدم حدوثاً في العالم الإسلامي يميل إلى اختيار الشكل الأول للتنمية وبناء الاقتصاد الداخلة للبلاد أي الاقتصاد الحر القائم على أساس رأسمالي نتيجة لأن المحور الرأسمالي للاقتصاد الأوروبي كان أسرع المحورين للنفوذ إلى العالم الإسلامي واستقطابه كمراكز نفوذ.
وعبر صراع الأمة سياسياً مع الاستعمار ومحاولتها التحرر من نفوذالمحور الرأسمالي وجدت بعض التجارب الحاكمة أن النقيض الأوروبي للمحور الرأسمالي هو المحور الاشتراكي فنشأ اتجاه آخر يميل إلى اختيارالشكل الثاني للتنمية أي التخطيط القائم على أساس اشتراكي نتيجة للتوفيق بين الإيمان بالإنسان الأوروبي كرائد للبلاد المتخلفة وواقع الصراع مع الكيان السياسي للرأسمالية فما دامت تبعية البلاد المتخلفة للبلاد الراقية اقتصادياً
تفرض عليها الإيمان بالتجربة الأوروبية كرائد وما دام الجناح الرأسمالي منهذه التجربة يصطدم مع عواطف المعركة ضد الواقع الاستعماري المعاش فليؤخذ بالتخطيط الاشتراكي بوصفه الشكل الآخر للتجربة الرائدة.
ولكل من الاتجاهين أدلته التي يبرر بها وجهة نظره فالاتجاه الأول يبررعادة التقدم العظيم الذي حصلت عليه الدول الأوروبية الرأسمالية و ما أحرزته من مستويات في الإنتاج والتصنيع نتيجة لانتهاج الاقتصاد الحر كأسلوب للتنمية و يضيف إلى ذلك أن بإمكان البلاد المتخلفة إذا انتهجت نفس الأسلوب وعاشت نفس التجربة أن تختصر الطريق و تقفز في زمن أقصر إلى المستوى المطلوب من التنمية الاقتصادية لأنها سوف تستفيد من خبرات التجربةالرأسمالية للإنسان الأوروبي و تستخدم كل القدرات العلمية الناجزة التي كلفت الإنسان الأوروبي مئات السنين حتى ظفر بها.
والاتجاه الثاني يفسر اختياره للاقتصاد المخطط على أساس اشتراكي بدلاً عن الاقتصاد الحر بأن الاقتصاد الحر إن كان قد استطاع أن يحقق للدول الأوروبية الرائدة في العالم الرأسمالي مكاسب كبيرة و تقديماً مستمرا ًفي التكنيك والإنتاج ونمواً متزايداً للثروة الداخلية للبلاد فليس بالإمكان أن يؤدي دوراً مماثلاً للبلاد المتخلفة اليوم لأن البلاد المتخلفة تواجه اليوم تحدياً اقتصادياً هائلاً يمثله التقدم العظيم الذي أحرزته دول الغرب وتقابل إمكانات هائلة منافسة لا حد لها على الصعيد الاقتصادي بينما لم تكن الدول المتقدمة فعلاً تواجه هذا التحدي الهائل وتقابل هذه الإمكانات المنافسة حين بدأت عملية التنمية الاقتصادية وشنت حربها ضد أوضاع التخلف الاقتصادي واتخذت من الاقتصاد الحر منهجاً وأسلوباً فلا بد للبلاد المتخلفة اليوم من تعبئة كل القوى والطاقات لعملية التنمية الاقتصادية بصورة سريعة ومنظمة في نفس الوقت وذلك عن طريق الاقتصاد المخطط القائم على أساس اشتراكي.
ويعتمد كل من الاتجاهين في تفسيره لما يمنى به من فشل في مجال التطبيق على الظروف المصطنعة التي يخلقها المستعمرون في المنطقة لكي يعرقلوا فيهاعمليات النمو ولا يسمح لنفسه على أساس ذلك أن يفكر حين الإحساس بالفشل في أي منهج بديل للشكلين التقليديين اللذين اتخذتهما التجربة الأوروبية الحديثة في الغرب والشرق بالرغم من وجود بديل جاهز لا يزال يعيش نظريا ًوعقائدياً في حياة الأمة وإن كان منعزلاً عن مجال التطلبيق وهو المنهج الإسلامي والنظام الاقتصادي في الإسلام.
و أنا لا أريد هنا أن أقارن بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي من وجهة نظر اقتصادية مذهبية فإن هذا ما أتركه للكتاب نفسه فقد قام كتاب اقتصادنا بدراسة مقارنة بهذا الصدد وإنما أريد أن أقارن بين الاقتصاد الأوروبي بكلا جناحيه الرأسمالي والاشتراكي والاقتصاد الإسلامي من ناحية قدرة كل منهما على المساهمة في معركة العالم الإسلامي ضدالتخلف الاقتصادي ومدى قابلية كل واحد من هذه المناهج ليكون إطاراًلعملية التنمية الاقتصادية.
ونحن حين نخرج من نطاق المقارنة بين هذه المناهج الاقتصادية في محتواها الفكري والمذهبي إلى المقارنة بينها في قابليتها التطبيقية لإعطاء إطار للتنميةالاقتصادية يجب أن لا نقيم مقارنتنا على أساس المعطيات النظرية لكل واحد من تلك المناهج فحسب بل لابد أن نلاحظ بدقة الظروف الموضوعية للأمة وتركيبها النفسي والتاريخي لأن الأمة هي مجال التطبيق لتلك المناهج فمن الضروري أن يدرس المجال المفروض للتطبيق وخصائصه وشروطه بعناية ليلاحظ ما يقدر لكل منهج من فاعلية لدى التطبيق. كما أن فاعلية الاقتصاد الحر الرأسمالي أو التخطيط الاشتراكي في تجربة الإنسان الأوروبي لا تعني حتماً أن هذه الفاعلية نتيجة للمنهج الاقتصادي فحسب لكي تتوفر متي اتبع نفس المنهج بل قد تكون الفاعلية ناتجة عن المنهج باعتباره جزءاً من كل
مترابط و حلقة من تاريخ فإذا عزل المنهج عن إطاره وتاريخه لم تكن له تلك الفاعلية ولا تلك الثمار.
ومن خلال دراسة مقارنة للمذاهب الاقتصادية المتعددة وإمكانات نجاحها عملياً في العالم الإسلامي يجب إبراز حقيقة أساسية يرتبط بها تقديرالموقف إلى درجة كبيرة وهي أن حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي ليست مجرد حاجة إلى أطار من أطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب لكي يمكن أن توضع التنمية ضمن هذا الإطار أو ذاك بمجرد تبنّي الدولة له والتزامها به بل لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف أن تؤدي دورها المطلوب إلا إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمة ضمنه وقامت على أساس يتفاعل معها. فحركة الأمة كلها شرط أساسي لإنجاح أي تنمية وأي معركة شاملة ضد التخلف لأن حركتها تعبير عن نموها ونمو إرادتها وانطلاق مواهبها الداخلية وحيث لا تنمو الأمة لا يمكن أن تمارس عملية تنمية فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للأمة يجب أن يسيرا في خط واحد.
و تجربة الإنسان الأوروبي الحديث هي بالذات تعبير تاريخي واضح عن هذه الحقيقة. فإن مناهج الاقتصاد الأوروبي كإطارات لعملية التنمية لم تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ أوروبا الحديث إلا بسبب تفاعل الشعوب الأوروبية مع تلك المناهج وحركتها في كل حقول الحياة وفقاً لاتجاه تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي المتناهي خلال تاريخ طويل هذا الاندماج والتفاعل.
فحين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عاماً للتنمية الاقتصادية داخل العالم الإسلامي يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساساً ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد
التخلف ولابد حينئذ أن نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها وتاريخها وتعقيداتها المختلفة.
ومن الخطأ ما يرتكبه كثير من الاقتصاديين الذين يدرسون اقتصادالبلاد المتخلفة وينقلون إليها المناهج الأوروبية للتنمية دون أن يأخذوا بعين الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوب تلك البلاد مع هذه المناهج ومدى قدرة هذه المناهج المنقولة على الالتحام مع الأمة.
فهناك مثلاً الشعور النفسي الخاص الذي تعيشه الأمة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار الذي يتسم بالشك والاتهام والخوف نتيجة لتاريخ مرير طويل من الاستغلال والصراع، فإن هذا الشعور خلق نوعاً من الإنكماش لدى الأمة عن المعطيات التنظيمية للإنسان الأوروبي وشيئاً من القلق تجاه الأنظمةالمستمدة من الأوضاع الاجتماعية في بلاد المستعمرين وحساسية شديدة ضدها وهذه الحساسية تجعل تلك الأنظمة حتى لو كانت صالحة ومستقلة عن الاستعمارمن الناحية السياسية غير قادرة على تفجير طاقات الأمة وقيادتها في معركة البناء فلا بد للأمة إذن بحكم ظروفها النفسية التي خلقها عصر الاستعماروانكماشها تجاه ما يتصل به أن تقيم نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعي ومعالم حضارية لا تمت إلى بلاد المستعمرين بنسب.
وهذه الحقيقة الواضحة هي التي جعلت عدداً من التكتلات السياسية فيالعالم الإسلامي تفكر في اتخاذ القومية فلسفة وقاعدة للحضارة وأساساً للتنظيم الاجتماعي حرصاً منهم على تقديم شعارات منفصلة عن الكيان الفكري للاستعمار انفصالاً كاملاً غير أن القومية ليست إلا رابطة تاريخية ولغوية وليست فلسفة ذات مبادىء ولا عقيدة ذات أسس بل حيادية بطبيعتها تجاه تخلف الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والعقائدية والدينية، وهي لذلك بحاجةإلى الأخذ بوجهة نظر معينة تجاه الكون والحياة وفلسفة خاصة تصوغ على أساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي.
ويبدو أن كثيراً من الحركات القومية أحست بذلك أيضاً و أدركت أن القومية كمادة خام بحاجة إلى الأخذ بفلسفة اجتماعية ونظام اجتماعي معين وحاولت أن توفق بين ذلك وبين أصالة الشعار الذي ترفعه وانفصاله عن الإنسان الأوروبي فنادت بالاشتراكية العربية. نادت بالإشتراكية لأنهاأدركت أن القومية وحدها لا تكفي بل هي بحاجة إلى نظام ونادت بها في إطار عربي تفادياً لحساسية الأمة ضد أي شعار أو فلسفة مرتبطين بعالم المستعمرين فحاولت عن طريق توصيف الاشتراكية بالعربية تغطية ا لأجنبي المتمثل في الاشتراكية من الناحية التاريخية والفكرية وهي تغطية فاشلة لا تنجح في استغفال حساسية الأمة لأن هذا الإطار القلق ليس إلا مجرد تأطير ظاهري وشكليّ للمضمون الأجنبي الذي تمثله الاشتراكية وإلا فأي دور يلعبه هذا الإطار في مجال التنظيم الاشتراكي وأي تطوير للعامل العربي في المواقف وما معنى أن العربية كلغة وتاريخ أو دم وجنس تطوّر فلسفة معينة للتنظيم الاجتماعي بل كل ما وقع في المجال التطبيقي نتيجة للعامل العربي إن هذا العامل أصبح يعني في مجال التطبيق استثناء ما يتنافى من ا لاشتراكية مع التقاليد السائدة في المجتمع العربي والتي لم تحن الظروف الموضوعية لتغييرها كالنزعات الروحية بما فيها الإيمان بالله فالإطار العربي إذن لا يعطي الاشتراكية روحاً جديدة تختلف عن وضعها الفكري والعقائدي المعاش في بلاد المستعمرين وإنما يراد به التعبير عن استثناءات معينة وقد تكون موقوتة والاستثناء لا يغير جوهر القضية والمحتوى الحقيقي للشعار ولا يمكن لدعاة الاشتراكية العربية أن يميزوا الفوارق الأصلية بين اشتراكية عربية واشتراكية فارسية واشتراكية تركية ولا أن يفسروا كيف تختلف الإشتراكية بمجرد إعطائها هذا الإطار القومي أو ذاك لأن الواقع أن المضمون والجوهرلا يختلف وإنما هذه الأطر تعبر عن استثناءات قد تختلف من شعب إلى آخرتبعاً لنوعية التقاليد السائدة في تلك الشعوب.
وبالرغم من أن دعاة الاشتراكية العربية قد فشلوا في تقديم مضمون حقيقي جديد لهذه الاشتراكية عن طريق تأطيرها بالإطار العربي فإنهم أكدوا بموقفهم هذا تلك الحقيقة التي قلناها وهي أن الأمة بحكم حساسيتها الناتجةعن عصر الاستعمار لا يمكن بناء نهضتها الحديثة إلا على أساس قاعدة أصيلة لا ترتبط في ذهن الأمة ببلاد المستعمرين أنفسهم.
وهنا يبرز فارق كبير بين مناهج الاقتصاد الأوروبي التي ترتبط فيذهن الأمة بإنسان القارة المستعمرة مهما وضعت لها من إطارات وبين المنهج الإسلامي الذي يرتبط في ذهن الأمة بتاريخها وأمجادها الذاتية ويعبر عن أصالتها ولا يحمل أي طابع لبلاد المستعمرين فان شعور الأمة بأن الإسلام هو تعبيرها الذاتي وعنوان شخصيتها التاريخية ومفتاح أمجادها السابقة يعتبرعاملاً ضخماً جداً لإنجاح المعركة ضد التخلف وفي سبيل التنمية إذا استمد لها المنهج من الإسلام واتخذ من النظام الإسلامي إطاراً للانطلاق.
وإلى جانب الشعور المعقد للأمة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار وكلا لمناهج المرتبطة ببلاد المستعمرين يوجد هناك تعقيد آخر يشكّل صعوبة كبيرةأيضاً في طريق نجاح المناهج الحديثة للاقتصاد الأوروبي إذا طبقت في العالم الإسلامي وهو التناقض بين هذه المناهج والعقيدة الدينية التي يعيشها المسلمون.وهنا لا أريد أن أتحدث عن هذا التناقض لكي أقارن بين وجهة النظر الدينية ووجهة النظر التي تتبناها تلك المناهج وأحاول أن أفضّل الأولى على الثانية_ أي أني لا أريد أن أبحث هذا التناقض بحثاً عقائدياً مذهبياً _ وإنما أحاول إبراز هذا التناقض بين مناهج الإنسان الأوروبي والعقيدة الدينية للإنسان المسلم بوصفها قوة تعيش داخل العالم الإسلامي بقطع النظر عن أي تقييم لها فإن هذه القوة مهما قدرنا لها من تفكك وانحلال نتيجة لعمل الاستعمارضدها في العالم الإسلامي لا يزال لها أثرها الكبير في توجيه السلوك وخلق المشاعر وتحديد النظرة نحو الأشياء. وقد عرفنا قبل لحظات أن عملية التنمية
الاقتصادية ليست عملية تمارسها الدولة وتتبناها وتشرّع لها فحسب وإنما هي عملية يجب أن تشترك فيها وتساهم بلون وآخر الأمة كلها. فإذا كانت الأمة تحس بتناقض بين الإطار المفروض للتنمية وبين عقيدة لا تزال تعتزبها وتحافظ على بعض وجهات نظرها في الحياة فسوف تحجم بدرجة تفاعلها مع تلك العقيدة عن العطاء لعملية التنمية والاندماج في إطارها المفروض.
وخلافاً لذلك لا يواجه النظام الإسلامي هذا التعقيد ولا يمني بتناقض من ذلك القبيل بل إنه إذا وضع موضع التطبيق سوف يجد في العقيدة الدينية سنداً كبيراً له وعاملاً مساعداً على إنجاح التنمية الموضوعة في إطاره لأن أساس النظام الإسلامي أحكام الشريعة الإسلامية وهي أحكام يؤمن المسلمون عادة بقدسيتها وحرمتها ووجوب تنفيذها يحف عقيدتهم الإسلامية وإيمانهم بأن الإسلام دين نزل من الشماء على خاتم النبيين (ص).
وما من ريب في أن من أهم العوامل في نجاح المناهج التي تتخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق.
وهب أن تجربة للتنمية الاقتصادية على أساس مناهج الاقتصاد الأوروبي استطاعت أن تقضي على العقيدة الدينية وقوتها السلبية تجاه تلك المناهج فإن هذا لا يكفي للقضاء على كل البناء العلوي الذي قام على أساس تلك العقيدةعبر تاريخ طويل امتد أكثر من أربعة عشر قرناً وساهم على درجة كبيرة في تكوين الإطار النفسي والفكري للإنسان داخل العالم الإسلامي. كما أن القضاء على العقيدة الدينية لا يعني إيجاد الأرضية الأوروبية لتلك المناهج التي نجحت على يد الإنسان الأوروبي لأنها وجدت الأرضية الصالحة لها والقادرةعلى التفاعل معها.
فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم الإسلامي وهناك أخلاقية الاقتصاد الأوروبي التي واكبت الحضارة الغربية
الحديثة ونسجت لها روحها العامة ومهدت لنجاحها على الصعيد الاقتصادي.
والأخلاقيتان تختلفان اختلافاً جوهرياً في الاتجاه والنظرة والتقييم وبقدرما تصلح أخلاقية الإنسان الغربي الحديث لمناهج الاقتصاد الأوروبي تتعارض أخلاقية إنسان العالم الإسلامي معها وهي أخلاقية راسخة لا يمكن استئصال جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية.
والتخطيط_ أي تخطيط للمعركة ضد التخلف_ كما يجب أن يدخل في حسابه مقاومة الطبيعة في البلد الذي يراد التخطيط له درجة تمردها على عمليات الإنتاج كذلك يجب أن يدخل في حسابه مقاومة العنصر البشري ومدي انسجامه مع هذا الخطط أو ذاك.
إن الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء وحتى المسيحية بوصفها الدين الذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين لم تستطع أن تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوروبي بل بدلاً عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضي.
وليست المحاولات العلمية للتفتيش عن نسب الإنسان في فصائل الحيوان وتفسير إنسانيته على أساس التكييف الموضوعي من الأرض والبيئة التي يعيش فيها أو المحاولات العلمية لتفسير الصرح الإنساني كله على أساس القوى المنتجة التي تمثل الأرض وما فيها من إمكانات ليست هذه المحاولات إلا كمحاولة استنزال الإله إلى الأرض في مدلولها النفسي وارتباطها الأخلاقي بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبي إلى الأرض وإن اختلفت تلك المحاولات في أساليبها وطابعها العلمي أو الأسطوري.
وهذه النظرة إلى الأرض أتاحت للإنسان الأوروبي أن ينشيئ قيما ًللمادة والثروة والتملك تنسجم مع تلك النظرة.
وقد استطاعت هذه القيم التي ترسخت عبر الزمن في الإنسان الأوروبي أن تعبّر عن نفسها في مذاهب اللذة والمنفعة التي اكتسحت التفكير الفلسفي الأخلاقي في أوروبا فإن لهذه المذاهب بوصفها نتاجاً فكرياً أوروبياً سجّل نجاحاً كبيراً إلى الصعيد الفكري الأوروبي لها مغزاها النفسي ودلالتها على المزاج العام للنفس الأوروبية.
وقد لعبت هذه التقييمات الخاصة للمادة والثروة والتملك دوراً كبيراً في تفجير الطاقات المختزنة في كل فرد من الأمة ووضع أهداف لعملية التنمية تتفق مع تلك التقييمات. وهكذا سرت في كل أوصال الأمة حركة دائبة نشيطة مع مطلع الاقتصاد الأوروبي الحديث لا تعرف الملل أو الارتواء من المادة وخيراتها وتملّك تلك الخيرات.
كما أن انقطاع الصلة الحقيقة للإنسان الأوروبي بالله تعالى ونظرته إلى الأرض بدلاً عن النظرة إلى السماء انتزع من ذهنه أي فكرة حقيقية عن قيمومة رفيعة من جهة أعلى أو تحديدات تفرض عليه من خارج نطاق ذاته وهيأه ذلك نفسياً وفكرياً للإيمان بحقه في الحرية وغمره بفيض من الشعوربالاستقلال والفردية الأمر الذي استطاعت بعد هذا أن تترجمه إلى اللغة الفلسفية أو تعبر عنه على الصعيد الفلسفي فلسفة كبرى في تاريخ أوروبا الحديثة وهي الوجودية إذ توجت تلك المشاعر التي غمرت الإنسان الأوروبي الحديث بالصيغة الفلسفية فوجد فيها إنسان أوروبا الحديث أماله وأحاسيسه.
وقد قامت الحرية بدور رئيسي في الاقتصاد الأوروبي وأمكن لعملية التنمية أن تستفيد من الشعور الراسخ لدى الإنسان الأوروبي بالحرية والاستقلال والفردية في نجاح الاقتصاد الحر بوصفه وسيلة تتفق مع الميول الراسخة في نفوس الشعوب الأوروبية وأفكارها وحتى حينما طرح الاقتصادالأوروبي منهجاً اشتراكياً حاول فيه أن ينطلق من الشعور بالفردية والأنانيةأيضاً مع تحويلها من فردية شخص إلى فردية طبقية.
وكلنا نعلم أن الشعور العميق بالحرية كان يوفر شرطاً أساسيا لكثير من النشاطات التي ساهمت في عملية التنمية وهو انعدام الشعور بالمسؤولية الأخلاقية الذي لم تكن تلك النشاطات لتتم بدونه.
والحرية نفسها كانت أداة لانفتاح الإنسان الأوروبي على مفهوم الصراع لأنها جعلت لكل إنسان أن ينطلق دون أن يحده في انطلاقه شيء سوى وجودالشخص الآخر إلذي يقف في الطرف المقابل كمحدد له فكان كل فرد يشكّل بوجوده النفي لحرية الشخص الآخر.
وهكذا نشأت فكرة الصراع في ذهن الإنسان الأوروبي وقد عبرت هذه الفكرة عن نفسها على الصعيد الفلسفي كما رأينا في سائر الأفكار الأساسية التي كونت مزاج الحضارة الغربية الحديثة. عبرت هذه الفكرة_ فكرةالصراع_ عن نفسها في الأفكار العلمية والفلسفية عن تنازع البقاء كقانون طبيعي بين الأحياء أو عن حتمية الصراع الطبقي داخل المجتمع أو عن الديالكتيك وتفسير الكون على أساس الأطروحة ونقضيها والمركب الناجم عن الصراع بين النقيضين. إن كل هذه الاتجاهات ذات الطابع العلمي أوالفلسفي هي قبل كل شيء تعبير عن واقع نفسي عام وشعور حاد لدىإنسان الحضارة الحديثة بالصراع.
وكان للصراع أثره الكبير في توجيه الاقتصاد الأوروبي الحديث وما واكبه من عمليات التنمية سواء ما اتخذ منه الشكل الفردي وعبر عن نفسه بالتنافس المحموم وغير المحدود بين المؤسسات والمشاريع الرأسمالية الشخصية في ظل الاقتصاد الحر التي كانت تنمو وتنمي الثروة الكلية من خلال صراعها وتنافسها على البقاء أو ما اتخذ منه الشكل الطبقي وعبر عن نفسه بتجمع اتثورية تتسلم مقاليد الإنتاج في البلاد وتحرك كل الطاقات لصالح التنميةالاقتصادية.
هذه هي أخلاقية الاقتصاد الأوروبي وعلى هذه الأرضية استطاع هذاالاقتصاد أن يبدأ حركته ويحقق نموه ويسجل مكاسبه الضخمة.
وهذه الأخلاقية تختلف عن الأخلاقية التي تعيشها الأمة داخل العالم الإسلامي نتيجة لتاريخها الديني فالإنسان الشرقي الذي ربته رسالات السماءوعاشت في بلاده ومر بتربية دينية مديدة على يد الإسلام ينظر بطبيعته إلى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض ويؤخذ بعالم الغيب قبل أن يؤخذ بالمادة والمحسوس.
وافتتانه العميق بعالم الغيب قبل عالم الشهادة هو الذي عبر عن نفسه على المستوي الفكري في حياة المسلمين باتجاه الفكر في العالم الإسلامي إلى المناحي العقلية من المعرفة البشرية دون المناحي التي ترتبط بالواقع المحسوس.
وهذه الغيبية العميقة في مزاج الإنسان المسلم حددت من قوة أغراءالمادة للإنسان المسلم وقابليتها لأثارته الأمر الذي يتجه بالإنسان في العالم الإسلامي حين يتجرد عن دوافع معنوية للتفاعل مع المادة وإغرائه باستثمارها إلى موقف سلبي تجاهها يتخذ شكل الزهد تارة والقناعة أخرى والكسل ثالثة.
وقد روّضته هذه الغيبية على الشعور برقابة غير منظورة قد تعبر في وعي المسلم التقي عن مسؤولية صريحة بين يدي الله تعالى وقد تعبر في ذهن مسلم آخر عن ضمير محدّد وموجّه وهي على أي حال تبتعد بإنسان العالم الإسلامي عن الإحساس بالحرية الشخصية والحرية الأخلاقية بالطريقة التي أحس بهاالإنسان الأوروبي.
ونتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها يحس بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب إليها وانسجام بينه وبينها بدلاً عن فكرة الصراع التي سيطرت على الفكرالأوروبي الحديث. وقد عزز فكرة الجماعة لدى الإنسان المسلم الإطار
العالمي لرسالة الإسلام الذي ينيط بحملة هذه الرسالة مسؤولية وجودها عالمي اًوامتدادها مع الزمان والمكان فإن تفاعل إنسان العالم الإسلامي على مر التاريخ مع رسالة عالمية منفتحة على الجماعة البشرية يرسخ في نفسه الشعور بالعالمية والارتباط بالجماعة. وهذه الأخلاقية التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي إذالاحظناها بوصفها حقيقة مائلة في كيان الأمة يمكن الاستفادة منها في المنهجة للاقتصاد داخل العالم الإسلامي ووضعه في إطار يواكب تلك الأخلاقية لكي تصبح قوة دفع وتحريك كما كانت أخلاقية مناهج الاقتصاد الأوروبي الحديث عاملاً كبيراً في إنجاح تلك المناهج لما بينهما من انسجام.
فنظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدي إلى موقف سلبي تجاه الأرض وما في الأرض من ثروات وخيرات يتمثل في الزهد أو القناعة أو الكسل إذا فصلت الأرض عن السماء وأما إذا ألبست الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي. وبدلاً عما يحسه اليوم المسلم السلبي من برود تجاه الأرض أو ما يحسه المسلم النشيط الذي يتحرك وفق أساليب الاقتصاد الحر أو الاشتراكي من قلق نفسي في أكثر الأحيان ولو كان مسلماً متميعاً سوف يولد انسجام كامل بين نفسيةإنسان العالم الإسلامي ودوره الايجابي المرتقب في عملية التنمية.
ومفهوم إنسان العالم الإسلامي عن التحديد الداخلي والرقابة الغيبية الذي يجعله لا يعيش فكرة الحرية بالطريقة الأوروبية يمكن أن يساعد إلى درجة كبيرة في تفادي الصعاب التي تنجم عن الاقتصاد الحر والمشاكل التي تواجهها التنمية الاقتصادية في ظله عن تخطيط عام يستمد مشروعيته في ذهن إنسان العالم الإسلامي من مفهومه عن التحديد الداخلي و الرقابة غير المنظورةأي يستند إلى مبررات أخلاقية.
والإحساس بالجماعة والارتباط بها يمكن أن يساهم إلى جانب ما تقدم في تعبئة طاقات الأمة الإسلامية للمعركة ضد التخلف إذا أعطي للمعركة شعار يلتقي مع ذلك الإحساس كشعار الجهاد في سبيل الحفاظ على كيان الأمة وبقائها الذي أعطاه القرآن الكريم حين قال (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فأمر بإعداد كل القوى الاقتصادية التي يمثلها مستوى الإنتاج باعتباره جزءاً من معركة الأمة وجهادها للاحتفاظ بوجودها وسيادتها.
وهنا تبرز أهمية الاقتصاد الإسلامي بوصفه المنهج الاقتصادي القادرعلى الاستفادة من أخلاقية إنسان العالم الإسلامي التي رأيناها وتحويلها إلى طاقة دفع وبناء كبيرة في عمليات التنمية وإنجاح تخطيط سليم للحياة الاقتصادية.
فنحن حينما نأخذ بالنظام الإسلامي سوف نستفيد من هذه الأخلاقية ونستطيع أن نعبأها في المعركة ضد التخلف على عكس ما إذا أخذنا بمناهج في الاقتصاد ترتبط نفسياً وتاريخياً بأرضية أخلاقية أخرى.
وقد أخذ بعض المفكرين الأوروبيين يدركون هذه الحقيقة أيضاً ويلمحون إليها معترفين بأن مناهجهم لا تتفق مع طبيعة العالم الإسلامي واذكر كمثال على ذلك جاك أو ستروى فقد سجل هذه الملاحظة بكل وضوح في كتابه((التنمية الاقتصادية)) بالرغم من أنه لم يستطع أن يبرز التسلسل الفني والمنطقي لتكوّن الأخلاقية الأوروبية وتكوّن الأخلاقية الإسلامية وترتب حلقاتها ولاالأبعاد الكاملة لمحتوى كل من الأخلاقيتين وتورط في عدة أخطاء وبالرغم من أمكان الاعتماد بصورة كاملة في إبراز هذه الأخطاء على ما كتبه الأستاذالجليل محمد المبارك في مقدمة الكتاب والأستاذ الدكتور نبيل صبحي الطويل الذي ترجم الكتاب إلى العربية فإن بودي أن أتوسع في فرصة مقبلة بهذاالصدد مكتفياً الآن بالقول بأن اتجاه إنسان العالم الإسلامي إلى السماء لا يعني
بمدلوله الأصيل استسلام الإنسان للقدر واتكاله على الظروف والفرص وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع كما حاول ذلك جاك أو سترويبل إن هذا الاتجاه لدى الإنسان المسلم يعبر في الحقيقة عن مبدأ خلافة الإنسان في الأرض فهو يميل بطبيعته إلى إدراك موقفه في الأرض باعتباره خليفة لله ولا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة لله في التأكيد على قدرة الإنسان وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيد المطلق في الكون كما لا أعرف مفهوماً أبعد من مفهوم الخلافة لله عن الاستسلام للقدر والظروف لأن الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يستخلف عليه ولا مسؤولية بدون حرية وشعور بالاختيار والتمكن من التحكم في الظروف وإلا فأي استخلافهذا إذا كان الإنسان مقيداً أو مسيّراً ولهذا قلنا إن إلباس الأرض إطارالسماء يفجر في الإنسان المسلم طاقاته ويثير إمكاناته بينما قطع الأرض عن السماء يعطل في الخلافة معناها ويجمد نظرة الإنسان المسلم إلى الأرض في صيغة سلبية فالسلبية لا تنبع عن طبيعة نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء بل عن تعطيل قوى التحريك الهائلة في هذه النظرة بتقديم الأرض إلى هذاالإنسان في إطار لا ينسجم مع تلك النظرة.
وإضافة إلى كل ما تقدم نلاحظ أن الأخذ بالإسلام أساساً للتنظيم العام يتيح لنا أن تقيم حياتنا كلها بجانبيها الروحي والاجتماعي على أساس واحد لأن الإسلام يمتد إلى كلا الجانبين بينما تقتصر كثير من المناهج الاجتماعية الأخرى غير الإسلام على جانب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية منحياة الإنسان ومثله فإذا أخذنا مناهجنا العامة في الحياة من مصادر بشرية بدلاً عن النظام الإسلامي لم نستطع أن نكتفي بذلك عن تنظيم آخر للجانب الروحي ولا يوجد مصدر صالح لتنظيم حياتنا الروحية إلا الإسلام فلا بد
حينئذ من إقامة كل من الجانبين الروحي والاجتماعي على أساس خاص بهمع أن الجانبين ليسا منعزلين أحدهما عن الآخر بل هما متفاعلان إلى درجة كبيرة وهذا التفاعل يجعل إقامتهما على أساس واحد أسلم وأكثر انسجاما ًمع التشابك الأكيد بين النشاطات الروحية والاجتماعية في حياة الإنسان.
العراق _ النجف الأشر ف محمد باقر الصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق